مقابلة مع البروفيسور جيفري ديفندورف، تشرين الأول، 2015
ترجمة من الانكليزية: كرم شعار
كتب جيفري ديفندورف العديد من الكتب حول إعادة إعمار كل من ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. ديفندورف حامل لدرجة الأستاذية باميلا شولمان في الدراسات الأوروبية والمحرقة اليهودية من جامعة نيو هامبشير. بحث البروفيسور الدور الأساسي الذي لعبه التخطيط في إعادة بناء المجتمعات بعد الصراعات. كتب أو حرر ثمانية كتب من ضمنها: بعد أن تضع الحرب أوزارها: إعادة إعمار مدن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، إعادة إعمار مدن أوروبا المقصوفة، إعادة إعمار حواضر اليابان بعد 1945، و أخيراً، القومية عابرة الحدود و المدينة الألمانية.
يبحث عمله المتعلق بألمانيا عن إجابات لكيف أدارت ألمانيا بزمن قياسي إعادة إحياء حواضرها متبعةً سياسة لا مركزية. تعاملت المدن مع مشاكلها بطرق مختلفة، غالباً ما كان ذلك تبعاً لنمط عمل مؤسسات التخطيط قبل الحرب. في المدى البعيد أخذت قضية واحدة بالاتضاح: المدن التي اتبعت مخططات شوارع ما قبل الحرب وحافظت على الكثافة العمرانية القديمة تحولت لأماكن أكثر جاذبية مقارنة بالأماكن التي باعدت العمران ووسعت المساحات بشكل حداثي.يبحث البروفيسور ديفندروف حالياً عما إذا كانت المدن المدمرة بفعل الحروب الأهلية تستعيد عمرانها بطرق مختلفة عن تلك المدمرة بفعل حروب خارجية.
ماذا كان تأثير التخطيط على إعادة الإعمار في ألمانيا؟
من كانت لديهم ممتلكات حاولوا إعادة تأهيلها فور تضررها. أثناء القصف حاول الناس إعادة تأهيل أماكن رزقهم وبيوتهم غير أن المخططين غالباً ما كانوا يحاولون التغيير. أرادوا بناء شوارع عريضة جديدة تستوعب حركة المرور بيد أن تطبيق الكثير من تلك الخطط اعتمد على التركبية السياسية في البلدات وقدرتها على فرض مخططات من هذا النوع. المخططين أرادوا تغيير المدن. حاول كونراد أديناور الذي أصبح لاحقاً مستشار ألمانيا الغربية توسيع الشوارع المحيطة بالكاتدرائية في كولونيا غير أنه جوبه برفض قاطني الحي. تراص الأبنية كان جزءاً من خصوصية تلك الشوارع وذلك الحي. هذه قضايا مهمة يتوجب على المدن أخذها بعين الاعتبار، ما الحيز الذي يجب تخصيصه للسيارات وأماكن ركونها؟
متى بدأ التفكير في إعادة الإعمار في ألمانيا؟
في الحقيقة بدأ التفكير في ذلك مبكراً ومن أحد مسببات هذا هو رغبة أدولف هتلر بتطوير الكثيرمن المدن حتى قبل بدء الحرب، حيث أراد فتح أماكن واسعة في المدن للمظاهرات السياسية. أراد رؤية مدن محدثة بشوارع عريضة للسيارات وأبنية ناطحة للسحاب. لهذا السبب بدأ المخططون بالتفكير بهذه الأمور من قبل الحرب، ليس فقط في برلين وإنما في هامبورغ ومدن أخرى. ظن المخططون مع بداً القصف أن ذلك سيسمح لهم بتطبيق خطط تحديث المدن بشكل أسهل غير أن هذا لم ينجح. أعربت المدن بعد القصف عن حاجتها للمخططين للمساعدة في إعادة الإعمار غير أن السكان لم يريدوا أولئك الداعمين للفكر النازي. لم يريدوا أن يخبرهم مخططون من مدن أخرى عن كيفية إعمار مدنهم.
جانب آخر يجعل ألمانيا مختلفة عن دول كاليابان والاتحاد السوفييتي وهو كونها لم تمتلك حكومة وطنية حتى أواخر 1949/1948. أي أنه لم تكن هناك عاصمة وطنية تملي على المدن كيف تقوم بإعادة الإعمار على نقيض اليابان والاتحاد السوفييتي حيث كان انطباع الناس بأن الحكومة الوطنية هي من عليها تحديد آلية إعادة الإعمار. قامت هذه الحكومات بإخبار المدن أن “التمويل سيكون شريطة اتباع التعليمات الحكومية.” اتبعت الكثير من المدن تعليمات الحكومة الوطنية بسبب حاجتها للتمويل لتستعيد عافيتها. في ألمانيا لم تكن هناك حكومة توفر التمويل وتعطي التعليمات للمدن مما ترك السكان يعيدون البناء بأنفسهم. على سبيل المثال: قامت العديد من الكنائس بإعادة الإعمار على نفقة أبناء الطائفة. جعل هذا وضع إعادة الإعمار في ألمانيا مختلفاً إلى حد ما عن الدول الأخرى.
بالرغم من انتشار مقولة أن خطة مارشال موّلت إعادة الإعمار، لم يكن ذلك صحيحاً. خطة مارشال لم تبدأ إلا مع أواخر 1948/1949. كان غرض الخطة إعادة بناء الاقتصاد وليس المدن. قامت الخطة في الواقع بإنفاق بعض المال على إعادة إعمار برلين الغربية لأسباب سياسية حيث نظر لها الأمريكيون على كونها: “مدينة رأسمالية في وسط الشرق الشيوعي”. تحولت خطة مارشال إلى مصطلح رتيب يتكرر سماعه دولياً كلما تدمرت مدن بفعل الحرب غير أن ذلك لم ينطبق على غالبية ما تم إعادة إعماره في ألمانيا. اقترض السكان المال غالباً من أقاربهم في الريف حيث وجدوا هناك أيضاً مواد البناء. لم تكن إعادة الإعمار مدارة بشكل مركزي على الإطلاق.
ما هي آثار إدارة إعادة الإعمار محلياً؟
حاول الناس في كثير من المناطق التعريف والحفاظ على الهوية المحلية لحواضرهم. دعني أعطك مثالاً: في بادئ الأمر أراد المخططون في ميونخ – بناءً على أفكار نوقشت خلال الحرب – شق شارع كبير في المدينة يكون بمثابة الشريان المروري تماماً مقابل مبنى البلدية. برز حراك شعبي كبير مناهض لتلك الخطة وما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف هو منطقة واسعة للمشاة. كان الناس سعيدون بذلك. هل عليك إستحداث أماكن للمشاة أم للسيارات فقط؟ فضل بعض المخططين استحداث العديد من الشوراع المرورية العريضة غير أن تلك الخطط عموماً جوبهت بالمعارضة. تم شق شارع عريض للمرور في دوسلدورف على الرغم من معارضة الكثيرين. قام المخططون بعملهم وأقاموا المعارض. كان الناس يأتون لمشاهدة تلك المخططات فيما عارضت غالبيتهم خطط التحديث تلك لمدنهم. لم تنجح تلك المعارضة في وقف بعض مشاريع التحديث بينما نجحت في بعضها الآخر لكون التخطيط فيها من مهام الإدارة المحلية.
يثني الناس على المدن التي تمتلك هوية محلية واضحة. هذا ما يدفعك لزيارة مدينة بعينها. لا يريد العامة رؤية كل المدن كنيويورك أو أماكن أخرى. هذا إشكالي في فرانكفورت لكونها مركزاًً للبنوك مما جعلها محتاجة للمساحات المكتبية الواسعة كتلك في المدن الحديثة غير أن الناس طالبوا بالإعمار الجديد على حواف المدن وليس في المدينة القديمة.
كيف استطاع الألمان إزالة الأنقاض من مدنهم بفعالية كبيرة؟
أثناء الحرب استخدمت كثير من المدن سجناء الحرب والمعتقلات النازية في إزالة الأنقاض وإبعادها. تحول ذلك لاحقاً لمصدر إحراج طويل الأجل حيث رفضت عدة مدن الاعتراف بما كانت تفعلة الحكومات المحلية، غير أن الأرشيفات تحوي صوراً يظهر خلالها معتقلي سجون الموت النازية وهم يحملون الأحجار المتساقطة والطوب.
شددت الحكومة كثيراً على إزالة الأنقاض خلال الحرب حيث كان النازيون يخبرون الجميع بأنهم سينتصرون مع حلول عام 1944. ليظهروا للناس حقيقة أن النصر سيكون حليفهم أرادوا إزالة الأنقاض أولا بأول. لم تكن بولندا والاتحاد السوفييتي على نفس تلك الحال فتلك الدرجة من التفاؤل لم تكن موجودة في أماكن أخرى. الدول المحتلة لم تمتلك حكومات محلية تقوم بفعل ذلك.
استطاع الألمان بعد الحرب أيضاً إيجاد طرق لتنظيم شؤونهم والعمل بشكل سريع نسبياً. تم تنظيم أعداد هائلة من النساء لإزالة الركام. العديد من الرجال قتلوا أو كانوا سجناء حرب. عند انتهاء الحرب، شجعت القوات المحتلة الحكومات المحلية أن تلزم أعضاء الحزب النازي بإزالة الأنقاض.
امتهان إزالة الأنقاض تحول إلى قضية جدلية. المتعاقدون الذين كانوا يقومون بشق الطرق في المناطق المحتلة عادوا من تلك المناطق وبدأوا بالعمل في إزالة الأنقاض بعد الحرب. قامت البلدات في كثير من الحالات باستجلابهم لهذا الغرض لكونهم يمتلكون المهارات والمعدات اللازمة. غير أنه كذلك كانت هناك الكثير من الاعتراضات على استقدام شركات مرتبطة بالنازية وإعمالها على إزالة الأنقاض.
قام الناس في كثير من المدن المدمرة بشدة كبرلين وهامبورغ بجمع الطوب والأحجار لإعادة استخدامها بيد أنه كانت تنقصهم اليد العاملة المؤهلة لإعادة الإعمار. رأى غالبية الناس في ألمانيا الشرقية بأنه من غير المبرر إعادة الإعمار باستخدام المواد القديمة وقاموا بالتالي بالانتقال لاستخدام المواد العصرية كالخرسانة مسبقة الصنع. نقص العمالة المؤهلة للبناء كان له أثر حقيقي على عملية إعادة الإعمار ككل. كان للباوهاوس Bauhaus (تلك الأبنية المدرسية العصرية في مدينة ديساو التي تم إغلاقها في ظل الحكم النازي) دور فعال جداً في المطالبة باستخدام مواد البناء العصرية. نقص اليد العاملة مشكلة محتملة في مدينة حلب. هل سيستطيع السكان إيجاد عدد كافٍ من العمال المؤهلين لإصلاح المباني؟ أو هل سيتوجب عليهم القول بأن بعض المباني تم تدميرها بشدة لدرجة يكون نسيانها أفضل؟
كيف تم إعادة إعمار برلين بعد الحرب؟
برلين مدينة واسعة جداً عمرانياً وكان هناك بعض المطالبات بمتابعة تحديث المدينة بعد الحرب بيد أن تلك لم تكن الحالة لدى الجميع. قام الناس باستعادة مبنى بلدية برلين الغربية المقصوف إلى جانب بعض المباني ذات الرمزية وحاولوا أيضاً صيانة بعض الأحياء كشارلوتنبورغ Charlottenberg. كانت الفرص في ألمانيا الشرقية أقل إتاحة لعمل ذلك حيث كان هنالك نزعة واضحة نحو الحداثة. طفى على السطح مؤخراً جدلية حول قصر مدينة برلين القديم، مقر الإقامة الشتوية لملوك بروسيا الذي كانت ألمانيا الشرقية قد قامت بإزالته وعمرت مكانه مبنىً عصرياً لحكومتها. تم هدم المبنى المستحدث بعد سقوط جدار برلين بينما يتم حالياً إعادة بناء القصر القديم. إذا ذهب أحدهم إلى بعض المناطق الشرقية المجاورة لمركز المدينة سيشاهد كيف أن بعض الأماكن يتم هدمها. كانت رغبة كل من الألمانيين الشرقيين والسوفييت في إنشاء بلد جديد رأوه قائداً للأفكار العصرية سبب ميل ألمانيا الشرقية للحداثة.
ما أجادت ألمانيا فعله في كثير من الأماكن هو حفاظها على مكونات أساسية من الهوية المدنية كإعادة بناء الكنائس ذات طراز الرومانسك (Romanesque) في كولونيا وليس فقط الكاتدرائية القوطية القديمة. ممارسات من هذا القبيل جعلت مدناً كميونخ وكولونيا تستحق الزيارة. في لوبيك تشعر بروح المدينة التاريخية فهي ليست فقط عبارة عن مجموعة من المباني المستحدثة. هذا كان من الأشياء المهمة جداً التي تم فعلها. لم أزر الكثير من المدن التي كانت تحت حكم ألمانيا الشرقية سابقاً،ولكن أشار الناس في مدينة لاببزيغ لجدل حول إعادة الإعمار. تم استعادة مدينة درسدن القديمة التي كانت جزءاً مهماً من هوية المدينة وبالرغم من عدم استعادتهم الكاملة لما يرونه كأهم مدينة ألمانية في عصر النهضة، قاموا بإعادة بناء الكاتدرائية حيث تم دفع غالبية التكاليف من البريطانيين والأجانب. كان لإعادة تكوين الهوية التاريخية للمدن أهمية قصوى. كان من المهم القول بأنه “لا يتوجب علينا أن نكون حداثيين لأبعد الحدود وإيجاد أماكن لركن السيارات وما شابه أوأن يتمحور عمران مدننا حول وجود السيارات.”
تقرأ عن تدمير الدولة الإسلامية -المعروفة بداعش- للمباني الأثرية وسيكون من المثير للاهتمام مشاهدة لأي حد سيتم إصلاحها أو إعادة بناؤها، أم هل سيتم نسيان هذه الأجزاء من التاريخ؟ بدأ برنامج لإعادة بناء قصر هوهنزولرن في ألمانيا الشرقية بعد سقوط جدار برلين. أرادوا إعادة بناءه لأنه من المهم لبرلين الاحتفاظ بأبنيتها التاريخية. غير أنه من المحوري أن يتم تحديد أي مكونات التاريخ المعماري مهمة. إذا قررت استعادة قصر بناه أباطرة فلم لا تستعيد مقر مستشارية هتلر؟ لم إعادة تأهيل أحد المباني وليس الآخر؟ هنالك العديد من الخيارات المعقدة حول تحديد ما يتم وما لا يتم إعادة إعماره.
كيف تعاملت ألمانيا مع المباني التي لها تاريخ في العنف والرعب؟
طالبت القوات المحتلة ألمانيا بإزالة رموز النازية في مبانٍ كمبنى شرطة دوسلدورف وألح الحلفاء في طلبهم. في السبعينيات تم تحويل مبنى صغير للغيستابو (الشرطة السرية النازية) في كولونيا حيث تم قتل وتعذيب الناس إلى متحف حول تاريخ كولونيا في الحقبة النازية. يمتلك المتحف معارض صغيرة وأرشيف ومكتبة. يستطيع الناس زيارته ومشاهدة معروضاته حيث يعترف المتحف بتاريخه كمبنى للشرطة السرية. كان لهذا أهمية قصوى بخصوص ألمانيا ما بعد الحرب. إنها دولة قبلت المسؤولية الجماعية لمآسي الحقبة النازية. لم يكن فقط هتلر أو وحدات الوقاية المعروفة باسم إس إس من فعلوا ذلك. إرتكبت ألمانيا الفظائع وكان ذلك جزءاً من المسببات المنطقية لمساعدة الضحايا وذويهم.